القرآن الكريم

الدرس الحادي والعشرون للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي من وصية الإمام علي لابنه الحسن عليهما السلام 1444هـ

| محاضرات ودروس السيد القائد | 29 ذو الحجة 1444هـ الثقافة القرآنية:

الدرس الحادي والعشرون للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي من وصية الإمام علي لابنه الإمام الحسن عليهما السلام 28-12-1444 هـ 16-07-2023 م

الدرس الواحد والعشرون للسيد القائد عبد الملك بن بدرالدين الحوثي “يحفظه الله”

من وصية الإمام علي لابنه الحسن “عليهما السلام”

الأحد 28 ذو الحجة 1444هـ – 16 يوليو 2023م

أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم.

أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه؛؛؛

تحدثنا بالأمس على ضوء قول أمير المؤمنين عليًا عَلَيهِ السَّلَامُ”، ((اطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتِ الْهُمُومِ بِعَزَائِمِ الصَّبْرِ وَحُسْنِ الْيَقِينِ))، وهذا من أهم ما ينبغي أن نستفيده من هذه الوصية المباركة؛ لأن كلًّا منا تؤثر عليه همومه، وقد يصل أحيانًا مستوى التأثير إلى واقعك العملي، قد يؤثر في واقعك النفسي تأثيرًا خطيرًا على نفسيتك، على صحتك، ثم على واقعك العملي أيضًا. البعض يصل التأثير عليه إلى درجة أن يترك أعمالًا عظيمة هي من أهم الأعمال، التي فيها نجاته، فيها فوزه، فيها القربة إلى اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”. البعض من الناس قد تكسره الهموم فيما يواجهه من المحن والشدائد. فنحن نحتاج في مواجهة الهموم، في التصدي للهموم، إلى عزائم الصبر، الصبر الذي نتجه فيه بجد، بعزم، أن نوطِّن أنفسنا على الصبر، ونحتاج إلى حسن اليقين، وتحدثنا عن هذا بالأمس بما يفيد -إن شاء اللّٰه.

((مَنْ تَرَكَ القَصْدَ جَار))، تحدثنا كذلك عن أهمية هذه الحكمة في أن على الإنسان أن يتجه الاتجاه الصحيح في مبدئه، في دينه، في موقفه، وأن يحذر من أن يميل عن ذلك، وأن يُفرِّط في ذلك، أو أن يُفرِط، أن يتجاوز الاتجاه الصحيح بإفراط، أو أن يقصر فيه بتفريط، والعبارة تشبه كما يقولون في التعبير المحلي: (اِمشي قُبَل)، يعني احذر الاعوجاج، اتجه الوجهة الصحيحة، ولا تمِلْ عنها، ولا تعوج عن ذلك.

((وَالْهَوَى شَرِيكُ الْعَمَى))، تحدثنا بالأمس عن خطورة الهوى على الإنسان، وأنك حتى عندما تحمل علمًا، ووعيًا، وفهمًا، أنت بالهوى تتحول كذلك الإنسان الذي لا يعي شيئًا، ولا يفهم شيئًا، ولا يعرف شيئًا، تكون كالأعمى. الإنسان إذا اتبع هواه فهو يخسر دينه، وهو أيضًا يتورط في المزالق الخطيرة.

((وَمِنْ التَّوفِيقِ الوُقُوفُ عِندَ الحَيْرَةِ))؛ لأن المطلوب من الإنسان أن ينطلق بتثبت، وبوضوح، وعلى أسس صحيحة.

((وَطَارِدُ الهَمِّ اليَقِينُ))، ويأتي الحديث عن اليقين بشكلٍ متكرر لأهميته؛ لأنك عندما تنطلق في أي موضوع بيقين، وقناعة تامة، فهذا سيعطيك حافزًا على الصبر والتحمل. وإذا ضعفت قناعتك في موقف معين، أو قضية معينة، فأنت ستجد نفسك ضعيفًا عن مستوى التحمل للتبعات، أو للصعوبات التي تواجهك. لكن كلما قوي يقينك، كلما قوي موقفك، وتحملك، كلما كانت قناعتك بما أنت عليه، وبالموقف الذي أنت فيه، قناعةً راسخة، كلما ساعدك ذلك على الثبات وعلى التحمل، وقلَّل من همومك، إضافةً إلى يقينك باللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بوعده، بأنه “جَلَّ شَأنُهُ” يصنع المتغيرات، بالتجائك إليه “جَلَّ شَأنُهُ”.

((وَالصَّاحِبُ مُنَاسِبٌ، وَالصَّدِيقُ مَنْ صَدَقَ غَيْبُهُ، وَالْهَوَى شَرِيكُ الْعَمَى، رُبَّ بَعِيدٍ أَقْرَبُ مِنْ قَرِيبٍ، وَقَرِيبٍ أَبْعَدُ مِنْ بَعِيدٍ))، تحدثنا عن مسألة الصاحب، وينبغي أن تكون مسألة الصحبة، والأصحاب، والأصدقاء، وكل الروابط مبنية على أساسٍ مهم، وهو رابطة التقوى. الإنسان إذا دخل في روابط وثيقة مع من لا تجمعه بهم التقوى، وأصبح في علاقته بهم كثير الاختلاط، كثير اللقاء بهم، فهو بالتالي يكون متأثرًا بهم، ثم يؤثر ذلك عليه في قناعاته، في أفكاره، في التزامه العملي، في أشياء مهمة، فلذلك ليحرص الإنسان على أن تكون هذه الأمور: روابطك علاقاتك مبنية على أساسٍ من تقوى اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

((مَنْ تَعَدَّى الْحَقَّ ضَاقَ مَذْهَبُهُ، وَالْغَرِيبُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبِيبٌ))، ((مَنْ تَعَدَّى الْحَقَّ ضَاقَ مَذْهَبُهُ))، أي طريق يتجه إليه فهو ضيق، ليس مقنعًا، ليس مبرَّرًا. الإنسان إذا سار في طريق الحق، فطريق الحق واضح، تنطلق فيه باطمئنان نفس وراحة بال، وتسلكه وهو أمامك أبلج وواضح، لكن إذا تورط الإنسان فتعدى الحدق وتجاوزه: تاه، وضل، وتخبط، واضطرب، ثم إذا اتجه أي اتجاه يجد نفسه في مأزق، يصعب عليه تبرير ذلك الاتجاه الذي اتجه فيه، وسواءً كان ذلك على المستوى الفكري، والعقائدي، أو على المستوى العملي، أو فيهما معًا، يصبح موقف الإنسان موقفًا مضطربًا.

((وَمَن اقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِهِ كَانَ أَبْقَى لَهُ))، تحدثنا بالأمس عن أهمية هذه الجملة. والذي يتأمل في واقع الناس، يجد أن من أكثر الناس إشكالًا؛ ممن صنعوا إشكالات كبيرة في الواقع ومشاكل: هم الذين يتجاوزون قدرهم. الإنسان إذا تجاوز قدره: يكثر من الأخطاء، يتصرف بشكلٍ غير صحيح، وتكبر عنده العقد، يعوض النقص الذي هو فيه من خلال عقده الشخصية، ثم تظهر لذلك سلبيات كبيرة في واقع الناس، وهذا يحصل في كل المجالات، البعض من الناس طموحهم في المناصب، تجعلهم يحرصون على أن يصلوا إلى مواقع ليسوا أهلًا لها، فيكون ذلك مشكلة، مشكلة لهم، مشكلةً في طريقتهم، في تصرفهم، في أساليبهم، في أدائهم، ومشكلةً للناس، للمجتمع. على المستوى العلمي والثقافي هناك كذلك من يتجاوز قدره، فيكثر من الأخطاء، ويقدم الأشياء الكثيرة غير الصحيحة، وهكذا في بقية المجالات، أي مجال يقفز فيه شخص إلى مستوى ليس أهلاً له، لا في مستوى المؤهلات اللازمة، أو الخبرة اللازمة، فهو يؤدي ما يؤديه من دور في ذلك المستوى بشكلٍ مغلوط، فتكثر الأخطاء، وتكثر الأضرار، حتى في المهن، وحتى في الحرف، وحتى في بقية المجالات، الأخرى في واقع الحياة، مثلًا مسألة الطب، مسألة البناء، مسألة مختلف المجالات، من تجاوز قدره فهو يسيء إلى نفسه، يسيء إلى الآخرين، ويفتح أبوابًا من الإشكالات، والأخطاء، التي تكون نتيجة لذلك.

((وَأوْثَقُ سَبَبٍ أَخَذْتَ بِهِ سَبَبٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ سُبْحَانَهُ))، تحدثنا بالأمس عن هذه الجملة المهمة جدًّا؛ لأن أغلب الناس هو يبحث عن ما هو السبب الذي اعتمد عليه لصلاح أحوالي، ولضمان مستقبلي، ولتحقيق طموحاتي وآمالي. فالبعض يرى ذلك في المنصب، البعض يرى ذلك في الوظيفة، أي وظيفة، يحرص على أن يكون موظفًا، وأن يكون له درجة وظيفية، البعض بالتجارة، البعض بأن يتهيأ له عمل معين يتحرك فيه. وهكذا تتنوع الأسباب، وتتعدد الأسباب. ولكن البعض يثق بذلك السبب وينسى اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وبالتالي قد يكون سعيه في ذلك السبب نفسه بطريقةٍ خاطئة فيها الكثير من المعاصي، مثلًا هو في منصبه: يمارس الظلم، يمارس الخيانة، هو في وظيفته كذلك يمارس الخيانة، يمارس الظلم، يمارس الفساد، في تجارته يمارس الغش، يتعامل بالمحرمات، في أعماله الأخرى كذلك قد يغش، قد يخدع، قد وقد اتكل كليًّا إلى ذلك السبب واعتمد عليه ونسي اللّٰه.

ولكن تلك الأسباب يمكنها بكلها أن تزول، وإذا كان الإنسان قدر راهن عليها كليًّا، واتكل عليها، وتحولت كل آماله إليها، فهو يصاب بخيبة أمل كبيرة، عندما يفقد ذلك الشيء، الذي قد علَّق عليه كل آماله، إذا فقد وظيفته، أو تجارته، أو عمله ذلك، يُصاب بخيبة أمل كبيرة، وإحباط شديد، وصدمة نفسية مزعجة، البعض يصاب بمرض نفسي، أو بجنون أو بآفات أخرى. لكن إذا كان السبب الأساس الذي اعتمدت عليه: هو ما بينك وبين اللّٰه، هو سعيك للحصول على رضوان اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأن تكون مع اللّٰه ليكون اللّٰه معك، ثم جعلت هذا هو السبب الأساس؛ وهو أوثق سبب، ولذلك لن يتركك اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، حتى إذا جئنا إلى الأسباب العملية ففاتك شيءٌ منها، أو ضاع عليك شيءٌ منها، أو خسرت شيئًا منها، فاللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” سيعوضك بسببٍ آخر، يفتح لك آفاقًا وأبوابًا أخرى، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}[الطلاق: من الآية 2]، يجعل اللّٰه لك المخارج من كل ضيق. ولذلك لو فاتك منصب، لو فاتك وظيفة، لو فاتك تجارة، لو خسرت شيئًا من تلك الأسباب العملية، فتبقى آمالك نحو اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لن تصاب بخيبة الأمل التي يعاني منها الآخرون؛ لأنك كنت متجها بآمالك نحو اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأنت واثق به، متوكل عليه، راجٍ له، فأنت تنتظر من اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتلتجئ إليه- في نفس الوقت- ليفتح لك أبوابًا من الخير أخرى، ويفتح أمامك آفاقًا جديدة غير تلك الآفاق التي انغلقت أبوابها.

((مَنْ اَعْتَبَكَ فَهُوَ مِنكَ، وَمَنْ لَمْ يُبَالِكَ فَهُوَ عَدُوُّكَ))، الإنسان الذي ولو أنه أخطأ تجاهك، لكنه سعى لتعويض ذلك الخطأ، سعى لأنْ يسترضيك، وأن ينصفك، وتفاهمَ معك، فتفاهمْ معه، لا تكن من النوع الذي لو حاول أحد إذا كان قد أخطأ تجاهه بأي خطأ، حاول أن ينصفه، وأن يسترضيه، وأن يبذل كل جهد من أجل أن يحل معه ذلك الأشكال، فلا يقبل أبدًا، يصر على أن يبقى الإشكال إشكالًا، ويعجبه أن يبقى الوضع متأزمًا دائمًا، الذي يسعى لأنْ يسترضيك وهو صادق معك، يريد أن ينصفك، يريد أن يحل ما بينك وبينه من إشكال؛ بصدق، فتقبل ذلك منه، فهو موافق لك، هو متجه نحوك، أنت أيضًا تعامل معه بإيجابية.

أما من يسيءُ إليك، يظلمك، يعاملك المعاملة السيئة، يصدر منه تجاهك ما فيه ظلم لك، أو إساءةٌ كبيرةٌ نحوك، ومع ذلك ليس في وارد أن ينصفك، ولا أن يسترضيك، وهو لا يبالي بك، ومهما كان ما قد فعله بك، مهما كان حجم ذلك، مهما كان ضرره، مهما كان سوؤه، فهو أمر طبيعي عنده، فهو العدو، هذا هو حال العدو معك، الذي لو فعل بك ما فعل، ولو كانت جنايته نحوك، أو إساءته إليك بأي حجم فهو لا يبالي بذلك؛ لأنه لا يحمل لك شيئًا من الاحترام، ولا يبالي بك، بل قد يفرح أصلًا؛ بأن يكون ما نالك منه هو أكبر من الأمور البسيطة، هو إساءة كبيرة، أو ظلم كبير، أو نحو ذلك.

والعرب أحوج الناس إلى أن يميزوا ما بين الصديق والعدو، العرب في هذا العصر اختلط عليهم الأمر، ولم يعتمدوا على معايير صحيحة، ولم ينتفعوا حتى بالقرآن الكريم في تمييز عدوهم من صديقهم، اللّٰه قال في القرآن الكريم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}[المائدة: من الآية 82]، اتجه البعض من الحكومات العربية، والزعماء العرب، لأنْ يصنفوا العدو الصهيوني الإسرائيلي اليهودي بالصديق! بالذي لا مشكلة معه، أقلّ التوصيفات عند بعض زعماء العرب، بـ(الحليف المحتمل)؛ أقل التوصيفات، يعني هذا طرف يمكن أن نتحالف معه مستقبلًا، لا مشكلة لنا معه حاليًا، ويمكن أن نتحالف معه مستقبلًا! وهكذا اتجهوا تحت عنوان التطبيع الذي هو معناه التعامل مع العدو الإسرائيلي كطرف طبيعي، يعني لا مشكلة معه، ولا يمثل خطرًا، ولا يصنَّف كعدو، بل كجهة عادية مثل أي جهة أخرى، يمكن إقامة علاقات معها؛ لأنه لا مشكلة معها وليست عدوًا، وهكذا.

وبدأوا في مسارات متعددة، البعض سرية، والبعض علنية، وهكذا يختلط عليهم الحال، ثم يتجهون بالعداء والبغض والمحاربة إلى أبناء هذه الأمة، الذين اتخذوا الموقف الصحيح في معاداة العدو الإسرائيلي، في مناهضة الهيمنة الأمريكية؛ لأن أمريكا وإسرائيل هما وجهان لعملة واحدة، فالعرب اليوم هم أحوج ما يكونون إلى أن يميزوا ما بين العدو وما بين الصديق، اختلطت عليهم الأمور إلى حدٍّ عجيب.

((قَدْ يَكُونُ الْيَأْسُ إِدْرَاكًا، إِذَا كَانَ الطَّمَعُ هَلَاكًا))، وتحدثنا بالأمس عن خطورة الطمع، وتحدثنا في محاضرات من المحاضرات الرمضانية على نحو تفصيلي أوسع، وما يتفرع عن الطمع من المفاسد الكبيرة في المعاملات، في التصرفات، الطمع: هو هلاك في الدين، وهلاك للإنسان، واليأس خير منه، مع أنه لا داعي لأنْ تكون يائسًا، يمكن أن تكون بدلًا عن الطمع: راجيًا للّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وبقناعة، قنوعًا.

((لَيْسَ كُلُّ عَوْرَةٍ تَظْهَرُ، وَلَا كُلُّ فُرْصَةٍ تُصَابُ، وَرُبَّمَا أَخْطَأَ الْبَصِيرُ قَصْدَهُ، وَأَصَابَ الأَعْمَى رُشْدَهُ))، يعني في بعض الأمور لا تظهر سلبياتها، وفي بعض الفرص لا تتهيأ الظروف؛ أو ظروف الإنسان نفسه، أو ربما تظهر عوائق معينة تحول دون اغتنامها، ولذلك لا ينبغي الإحباط تجاه ذلك، ولا أن يُبنى على ذلك تقييم عام. الإنسان البصير الذي يتحرك ببصيرة، أكثر أعماله هي الصواب، هي الإصابة، هو يتحرك بناءً على أسس صحيحة، بطريقة صحيحة، الخطأ عنده حالات نادرة، فالحالات النادرة تلك: لا يُبنى عليها تقييمٌ عام؛ لأن هذه الحالة تحصل في ظروف الناس، ولذلك لا مبرر من خلالها؛ أن تفترض أنه لم يعد بالإمكان الاعتماد عليه، ولا الوثوق به؛ لأنك لن تجد إنسانًا تعتمد عليه في مهام عملية معينة من دون أن يُخطئ- طول مسيرة حياته- ولا خطأ واحد؛ هذا لا يتهيأ، هذا يحصل.

((أَخِّرِ الشَّرَّ، فَإِنَّكَ إِذَا شِئْتَ تَعَجَّلْتَهُ))، تحدثنا بالأمس عن أهمية هذه الجملة، ألا يكون العنف والموقف القاسي خيارك الأول، قد يكون خيارًا عند الضرورة القصوى؛ وبالحق والعدل، وليس بالظلم والتهور، وليس وفق النزعة الانتقامية، وليس وفق رغبة الشر التي تتأجج في مشاعر الإنسان.

والإنسان إذا كان يتعامل مع الأمور بالشر من أول لحظة، فهو يفتح الكثير من المشاكل، وأكبر من المشاكل التي تحرك في الشر بسببها، وفعلًا نحن نُصنِّف بحكم معايشتنا وتجربتنا، وما نطَّلع عليه من القضايا، نصنف الكثير منها، أنه وللأسف الشديد تعقَّد جدًّا وكبر؛ لأن المعاملة معه من بعض الأطراف كانت باستعجال الشر، أول ما يختلف مع شخص آخر، إما نزاع على أرض، أو نزاع في قضية، قضية اجتماعية، أو أي قضية أخرى، يبادر فورًا لاتخاذ العنف وسيلةً في مواجهته مع ذلك الشخص، أو ذلك الطرف، أحيانًا قبيلة مع قبيلة، أو أسرة مع أسرة. وهكذا يترتب على ذلك: الكثير من المشاكل التي يصعب إغلاقها، وكان الحل قبل الشر، قبل أن يدخل أسلوب العنف، أو أسلوب التعامل المعادي، أو التصرف العدائي، قبل أن يدخل في الموضوع، كان الحل أيسر بكثير، كانت قضية بسيطة يمكن حلها بالصلح، بمساعي وِدِّيَّة، بالفصل القضائي، بطرق أخرى ميسرة، وتفيد في أن تُجنِّب الطرفين أو الأطراف، الكثير من الخسائر، الكثير من المشاكل، الكثير من الهموم، قد تكون وقاية من خسائر بشرية، وخسائر مادية.

ونحن نعرف البعض من القضايا الاجتماعية في بلدنا ما بين قبيلة وأخرى، تسببت بعشرات الضحايا، العشرات يُقتَلون من هنا وهنا، وأعداد كبيرة من الجرحى، ويضاف إلى ذلك خوف لفترات طويلة أثَّر على الناس في حركتهم، في تجارتهم، في سفرهم، في ذهابهم وإيابهم، بل البعض من المناطق يؤثر عليهم الخوف حتى في بيوتهم، في قراهم، إذا كانت مناطق متجاورة، قريبة من بعضها البعض، فيعيشون حالة الخوف الشديد، والقلق الشديد، والتخفي الدائم في منازلهم، لسنوات طويلة، والسبب أنهم استعجلوا الشر، من أجل قضية خلاف معين، كان بالإمكان حلُّه ببساطة، لكنهم تعجلوا الشر. فالاستعجال بالشر طريقة خاطئة.

كذلك من هم في موقع المسؤولية: المسؤوليات الأمنية، المسؤوليات العسكرية، الجهات الأخرى التي قد تتعجل الشر في إجراءاتها، لديها إجراءات معينة، إجراءات قاسية، قبل أن يكون هناك ضرورة لها، يمكن أن يكون هذا الخيار، خيارًا يبقى متاحًا عند الضرورة القصوى، ولكن كما قلنا بالحق وبالعدل.

((وَقَطِيعَةُ الْجَاهِلِ تَعْدِلُ صِلَةَ الْعَاقِلِ))، الجاهل هنا ليس المقصود به مجرد الإنسان الأُمِّيّ؛ الذي لم يتعلم ولا يقرأ ولا يكتب، ولهذا كانت المقابلة بين الجاهل والعاقل وليس بين الجاهل والمتعلم، فقال: ((تَعْدِلُ صِلَةَ الْعَاقِلِ))، والمقصود بالجاهل هنا الذي يتصرف بجهالة، يعني بخلاف مقتضى الحكمة، بخلاف مقتضى القيم والأدب، الإنسان الذي هو يتعامل بِسَفَه، يتصرف بطَيش، ليس منضبطًا في أعماله وتصرفاته، ولا ملتزمًا بالأخلاق والقيم، هذا الإنسان لا خير لك في أن يكون لك روابط معه، وصلة به، صلة وثيقة به، وعلاقة قوية به، علاقتك القوية به لن تفيدك شيئًا، هو سيسيئ إليك عندما تُحسَب عليك بعض تصرفاته الطائشة، وبعض سفهه، وعبثه، وتجاوزاته، أو أنه ينقص فيك أنت من رُشدك، من حكمتك، من أخلاقك، من قيمك، ما ينقص بسبب تأثرك به، فتتجه معه بالتصرفات الطائشة، الغير متزنة، الغير المنضبطة، البعيدة عن الرشد، عن الصواب، عن الحكمة. فالأفضل لك ألا تكون على صلة به، أن تتركه، لا حاجة لك بأن يكون لك صلة به، ((وَقَطِيعَةُ الْجَاهِلِ تَعْدِلُ صِلَةَ الْعَاقِلِ))؛ لأنها سلامةٌ لك، سلامةٌ لك من أن تتأثر به، وسلامةٌ لك بأن تُحسَب معه، ويُحسَب ما يصدر منه أيضًا عليك، أو بشكلٍ أو بآخر تكون شريكًا له.

((نِعْمَ حَظُّ المَرْءِ القُنُوع))، القناعة: هي التي نحتاج إليها كصفةٍ مهمةٍ وعظيمةٍ، بدلًا عن الطمع؛ أن تكون قنوعًا وليس طماعًا، ليس إنسانًا كثير الأطماع. القناعة كنزٌ لا ينفد، القناعة خلقٌ عظيم، وهي سلامة للإنسان؛ لأن الطمع له مفاسد كبيرة جدًّا، وإذا كان الإنسان قنوعًا، يقنع بما مَنَّ اللّٰه به عليه ورَزَقه به، ولا يتجه به الطمع نحو الأشياء السيئة، نحو المفاسد، أو المعاملات السيئة، فالقناعة تحفظ لك شرفك، تحفظ لك كرامتك، تحفظ لك دينك، تبعدك عن التصرفات الدنيئة؛ لأن البعض قد يصل به الطمع، إلى أن يسرق، أو يغش، أو يتعامل في المحرمات، أو يتاجر في المحرمات، أو غير ذلك، البعض يرتكب المظالم، الخيانات. فالأشياء الدنيئة والتصرفات السيئة الناتجة عن الطمع هي كثيرة، لكن يقيك منها بكلها: القناعة، وهي راحة نفسية للإنسان؛ لأن الإنسان الذي يمتلك القناعة لا يتعذب نفسيًا، لا يتعذب نفسيًا لشدة رغبته في الحصول على الأموال، وعلى تلك المطامع التي يتجه الآخرون للحصول عليها بأي ثمن، وبأي طريقة حتى ولو كان بالحرام.

((وَمَنْ شَرِّ أَخْلَاقِ المَرْءِ الحَسَدُ))، الحسد صفة ذميمة جدًّا، ومعصية في نفس الوقت، وحقيقة الحسد: هو تمنِّيك لزوال نعمة أنعمها اللّٰه على إنسان لتكون إليك دونه، أنت حقدت عليه، وتمنيت زوال النعمة التي أنعم اللّٰه بها عليه؛ لتكون إليك بدلًا عنه، فأنت تتمنى حرمانه من النعمة التي أنعم اللّٰه بها عليه، وأن تكون تلك النعمة لك أنت دونه. أنت لست تتمنى أن يمُنَّ اللّٰه عليك بمثل ما مَنَّ به عليه، دون حقد عليه، ودون تمَنٍّ لزوال ما أنعم اللّٰه به عليه، لو كان الحال هكذا: أن تتمنى مثل ما أنعم اللّٰه به عليه، كانت المسألة أبسط، واللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يقول في القرآن الكريم: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}[النساء: من الآية 32].

أنت يمكنك أن تتجه إلى اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأن تأخذ بالأسباب المشروعة، التي شرعها اللّٰه وأذِن فيها؛ للحصول على ما تريد الحصول عليه، إنْ حصلتَ عليه فنعمة تشكر اللّٰه عليها، وإن لم تحصل عليه فكُن قنوعًا، تقنع بما منَّ اللّٰه به عليك، وعلِّق آمالك فيما هو أهم وأعظم عند اللّٰه من الخير في الدنيا والآخرة.

لكن عندما يكون الإنسان حسودًا، فهو يحقد على الآخرين؛ ولم يعملوا به شيئًا، ولم يصدر منهم تجاهه أي إساءة، ليس لأنه تعدى عليك، ولا ظَلَمك، ولا فعل بك شيئًا. أنت غاضب منه، حاقدٌ عليه، تكرهه وتتعقد عليه؛ لأن اللّٰه أنعم عليه نعمةً معينة، إما نعمةً مادية، حقدت عليه لأنه أصبح لديه ثروة معينة، أو مالًا معينًا، أو منزلًا ليس لديك كمثله، أو سيارةً ليس لديك كمثلها، أو أي وسيلة من الوسائل أو الإمكانات المادية، أو نعمة أخرى لما وهبه اللّٰه إيَّاه من مواهب معينة مثلًا، أو نعمةً معنوية، أو وجاهة، أو مكانةً معينة، لأي سببٍ من أسباب النعم، لأي نعمةٍ من النعم، حقدت عليه بسببها، وكرهته، وأصبحت غاضبًا منه، وحاقدًا عليه، وتتمنى زوال تلك النعمة وأن تكون لك أنت فقط وليس له. فهذه: هي حالة الحسد، التي هي من أكبر الذنوب، هي من الكبائر، من الكبائر في الذنوب، وهي حالة نفسية سيئة للغاية، سيئة للغاية، جريمة الحسد كانت هي السبب فيما حصل في بداية تاريخ البشرية، من قتل أحد ابني آدم لأخيه، {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة: من الآية 27]، كان وراء تلك الجريمة العدوانية، غير المبرَّرة، كان ورائها ذنب الحسد، صفة الحسد الذميمة.

الحسد حالة نفسية خطيرة جدًّا على الإنسان، تخرجه عن إنسانيته، وهي دنيئة في نفس الوقت، وغير مبرَّرة. الإنسان الذي يحقد على الآخرين لما وهبهم اللّٰه إياه من مواهب، أو نِعم مادية أو معنوية: إنسانٌ حقودٌ، لئيمٌ، دنيء. واغتياظه لأن اللّٰه أنعم على ذلك بنعمة: يعبِّر عن حقده وعن الشر الكامن في نفسه، إنسان لا خير فيه، فقَدَ مشاعر الخير في نفسه، ولم يعد يحمل إرادة الخير للآخرين، وأنانيٌ إلى حد رهيب جدًّا.

ولِما يتفرع عن الحسد من الجرائم، والأعمال السيئة، والعدوانية، أتى فيما علَّمنا اللّٰه أن نتعوذ منه في القرآن الكريم: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}[الفلق: 5]، لأن الحاسد بتلك الحالة النفسية السيئة المعقدة الشريرة قد يتجاوز إلى فعل المحرمات، إلى انتهاك الكرامات، إلى ارتكاب الجرائم الشنيعة الفظيعة، فهو من أخطر ما يدفع الإنسان إلى ارتكاب الجريمة الحسد، ولذلك قال أمير المؤمنين: ((وَمِنْ شَرِّ أَخلاقِ المَرْءِ الحَسَد)).

على الإنسان أن يحذر، أن يحذر من حالة الحسد، وألا يسمح لنفسه بذلك، وأن يراقب نفسه، وأن يُقيِّم طبيعة مواقفه من الآخرين، فأحيانًا قد تكون حقيقة موقفك والدافع في موقفك السلبي تجاه شخص معين، أنت أصبحت تكرهه، تحقد عليه، تغتاظ منه، تقوم قيامتُك إذا سمعت أحدًا أثنى عليه، أو تكلم عنه بكلام جميل، أو رأيته يتحرك، أو وجدته وشاهدته في اجتماع، أو مناسبة، قد يكون السبب هو الحسد، إنما أنت لم تنظر جيدًا في حقيقة موقفك وما وراءه، ولذلك تستبسط ما يجري منك تجاهه: وهي حالة خطيرة عليك؛ لأنه مع الحسد لا يبقى لك شيءٌ من الحسنات، ولا تُقبل شيءٌ منك من الأعمال الصالحة، وأنت في حالٍ خطيرةٍ جدًّا عليك؛ على دينك، على علاقتك باللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

وتُعتبر النقمة في الحسد؛ في حقيقتها العميقة، وفي خلفيتها: تعتبر نقمة على اللّٰه؛ لأنه المنعم، الواهب، المعطي، وإنما لم يمكنك أن تتوجه، والبعض حتى يجرؤون على ذلك، بينما الحالة العامة: أنه لا يمكنك أن تكون جريئًا لتظهر موقفك السلبي، موقفك السلبي تجاه اللّٰه: لماذا أنعم على ذلك الإنسان بتلك النعمة؟ لماذا وهبه ذلك؟ لماذا.. حوَّلت حقدك عليه فحسب، لكن في حقيقة الأمر، وما وراء موقفك: هو أنك غاضب من المنعم، المعطي، الوهاب، المنان، الكريم: وهو اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

((الشُّحُّ يَجْلِبُ المَلامَة))، الشُّحّ: حالة خطيرة أيضًا على الإنسان؛ لأنه يجمع فيها بين البخل والحرص، يعني يتوفر عنده الطمع والبخل، يريد أن يجمع، ويبخل في أن يعطي، وهذا يتفرع عنه الكثير من المعاصي، معاصي والإنسان يأخذ بأي طريقة، حتى بما هو محرَّم عليه، ومعاصٍ وهو يبخل بما عليه من التزامات، وحقوق، ومسؤوليات، وكذلك يترتب عليه تأثير نفسي سيء، يفقدك الشعور بالكرم، بالجود، بالقيم الإنسانية والدينية العظيمة والراقية التي فيها سموٌ لك وكمالٌ لك في إنسانيتك، ولهذا يقول اللّٰه: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ} [الحشر: من الآية 9].

((المَخَافَةُ شَرُّ لِحَاف))، المخافة غير الواعية؛ الخوف الذي يدفع الناس إلى الانهيار أمام الأعداء، والخضوع للطغاة والظالمين، والمجرمين، والمستكبرين في الأرض، نتيجةً للخوف من شرهم وبغيهم، فهو: ((شَرُّ لِحَاف))؛ لأنه مُذِلّ، يدفع الناس إلى الاستسلام والخنوع لغير اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويُمكِّن أعدائهم منهم. الخوف بالمستوى الطبيعي هو: الذي يدفع إلى الاحتراز، إلى العمل، إلى الموقف، إلى التحرك وفق تعليمات اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بما يرتقي بالأمة إلى أن تكون في مستوى مواجهة العدو، والتصدي للعدو، ومواجه الخطر الذي يهددها.

((لا خَيرَ فِي لَذَّةٍ تَعْقُبُهَا نَدَامَة))، وهي اللذة الحرام؛ اللذة المحرمة سواءً في المفاسد الأخلاقية، أو في الطعام، أو في المأكولات والمشروبات، في أي شيءٍ مما يشتهيه الإنسان من الملاذّ، من الملذات، إذا كان محرَّمًا فسيعقبه ندامة، سيعقبه العقوبة، عقوبات تأتي في عاجل الدنيا، وعقوبات رهيبة جدًّا في جهنم، في الآخرة، ولهذا لا ينبغي أبدًا أن يكون الإنسان فقط متَّبعًا لشهوات نفسه، {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} [النساء: من الآية 27]؛ لأن نفسه اشتهت لذةً معينة، فلو كانت محرمة؛ لا يتحرَّج من سعيه للوصول إليها، والتورط فيها، وهي لذة محرمة، يمكنك أن تسعى في الحلال، في الحصول على اللذة الحلال: في مأكولات، في مشروبات، فيما يتعلق بالغريزة الجنسية، في غير ذلك، لكن أما في الحرام فهي: وخيمة سيئة، وعاقبتها خطيرة عليك، وليست شيئًا في مقابل ثمنها الباهظ، عقوبتها الشديدة والخطيرة جدًّا، غمسةٌ واحدةٌ في نار جهنم، تُحرقك، وتُحرق كل جسدك، بعذاباتها، والآمها الشديدة؛ ستنسيك حتى لو كنت استفرغت كل جهدك ووقتك، وعمرك وحياتك في اللذة الحرام. فما بالك بحالات عارضة، لكن يعقبها ندامةٌ شديدة، عذابٌ نفسيٌ شديد، وعذابٌ جسديٌ أيضًا شديد. فتلك اللذة التي كانت عابرة، وزائلة، ومحدودة: يعقبها الندم الشديد، العذاب النفسي الشديد، الألم الشديد، الوجع الشديد، العذاب العظيم- والعياذ باللّٰه.

البعض من الذنوب تورط الإنسان، فيكون مصيره إلى جهنم، يضاعَف له فيه العذاب- والعياذ باللّٰه، ولهذا يقول الشاعر في أبياتٍ شعريةٍ جميلة:

تَفــنَى اللَّذاذَةُ مِمَّن نالَ بُغيَتَهُ   مِن الحَرامِ وَيَبقَى الإِثمُ وَالعارُ

   تَبــــقَى مَغَبَّةُ سُوءٍ فِي عَواقِبَها        لا خَيرَ فِي لَذَّةٍ مِن بَعدِها النَّــارُ

والإنسان حتى لو كانت العقوبة شيئًا من عقوبات هذه الدنيا؛ لأنه في مقابل لذةٍ في محرَّم، يقوم الناس بإدخاله مثلًا إلى تنور ليحترق فيه لساعةٍ كاملة، هل سيقبل الإنسان بذلك مقابل أي لذةٍ من لذات الدنيا المحرمة؟ لن يقبل، فما بالك بجهنم- والعياذ باللّٰه، كم ستكون آلام الإنسان، بكاؤه، أوجاعه التي تنسيه كل شيء؟! الإنسان في هذه الدنيا إذا عانى من بعض الأمراض، أو بعض الأوجاع: ينسى وقتها كل اللذات، ولم يعد باله متجهًا نحو شيءٍ منها، بكل أنواعها، يُعرَض على المريض أطيبُ الطعام، فلا يستسيغه ولا يريده، مِن الذي لو كان في حال عافية لاستساغه وفرح به جدًّا. هكذا بقية اللذات، والحالة حالة محدودة؛ مرض مثلًا يؤثر على وضعك الصحي، ما بالك بعذاب جهنم- والعياذ باللّٰه.

((العَاقِلُ مَن وَعَظَتْْهُ التَّجَارِبُ))، العاقل: الإنسان الراشد، الذي يتعامل بحكمة في الأمور، بخبرة، بتصرفٍ صحيح، هو الذي استفاد من التجارب، من كل تجربة، سواءً كانت نجاحً استفاد منها، كانت خطأً استفاد منها، فأصبح لديه خبرة في التعامل مع الأمور بشكلٍ صحيح، بشكلٍ حكيم، والعمل وفق ذلك، فهو يتعامل برشد كبير. والإنسان بحاجة إلى أن يستفيد من التجارب، وأن يأخذ منها العبرة والعظة.

((رَسُولُكَ تَرْجُمَانُ عَقْلِكَ))، يعني هو يعبِّر عنك، فأحسِن الاختيار لمن يستطيع ويتمكن من التعبير عما تريده وتفكِّر به بشكلٍ صحيح.

((لَيْسَ مَعَ اَلِاخْتِلَافِ اِئْتِلَاف))، الاختلاف حتى في وجهات النظر، تجاه موقف، أو قضية معينة، أو في أمور مهمة: يؤثر على الأُلفة ما بين المختلفين؛ على مدى تآلفهم، محبتهم لبعضهم البعض، الاختلاف يسبب الجفاء فيما بينهم، والتنافر فيما بينهم، والتباعد، وأحيانًا التناقض في الموقف العملي نفسه، فيؤثر على مدى تعاونهم، فلذلك ينبغي العمل لحل أي اختلاف؛ لأنه يؤثر حتى على المستوى النفسي، على التآلف، على التقارب، على المودة.

((يُنْبِئُ عَنْ كُلِّ امْرِئٍ دَخِيلَتُهُ))، دخيلته: يعني المختصُّ به، الذي له علاقة خاصة به، يعرف عنه كل أحواله، يعيش معه مختلَف ظروفه، فهو يصبح لديه خبرة بأموره بشكلٍ كبير، وقد يكون أيضًا متأثرًا به، فيظهر من خلاله الكثير من خصوصيات ذلك الذي اختص به ذلك الشخص.

((رُبَّ بَاحِثٍ عَنْ حَتْفِه))، البعض من الناس عندما يتحرك إما بطمع، إما بهوى النفس، إما بشكلٍ عشوائيٍ وغير حكيم، فيما يسعى له ويريد الوصول إليه؛ من مصالح معينة، أو أهداف معينة، لكنه بتلك الطريقة يبحث عن حتفه، فهو يبحث عن هلاكه، وفعلًا الكثير من الناس يحصل لهم ذلك: يتحرك بطريقة عشوائية، بطريقة غير صحيحة، بدافع الأطماع، أو الأهواء، أو بالأساليب الخاطئة، فلا يصل إلى النتيجة، تكون النتيجة هي حتفهُ.

((رُبَّ هَزْلٍ عَادَ جِدًّا))، الإنسان يجب عليه أن يكون متنبهًا حتى في الهزل، لا يتعامل في الهزل بشكل عشوائي، أو لا يكون حتى متعودًا على أن يكون إنسانًا كثير الهزل؛ لأن من الهزل ما إلى جدّ، وهذا يحصل في واقع الناس، تجد أحيانًا مشكلة وصلت إلى حد القتل، كانت بدايتها هزل، ثم ترتب على ذلك إفراط وتجاوز، ثم اشتد الأمر وتحول إلى جدّ، وتحولتْ إلى مشكلة كبيرة. أحيانًا عداوات كانت بدايتها هزل، فكلمة أتت، وكلمة قابلتها، وزادت هذه الكلمة، ونقصت أخرى، وهكذا. ويحصل أحيانًا في الهزل: ردود أفعال سلبية تُحوِّلُه إلى جدّ، فأحيانًا يتفرع عنه عداوة، أحيانًا يتفرع عنه مشكلة، أحيانًا يتفرع عنه التزامات شرعية، التزامات عملية: هي أعباء على الإنسان؛ لا يريدها، هو أصلًا لم يكن يقصد الوصول إليها. وحتى على المستوى الشرعي: في النكاح، في الطلاق، في أمور من المعاملات، يتحول هزلهنَّ جدّ، ولذلك لا ينبغي أن يكون الإنسان مستهترًا في أحواله؛ عندما يدخل في هزل يدخل بحالة استهتار، فيصل إلى نتائج لا يريد الوصول إليها.

((مَنْ أَمِنَ الزَّمَانَ خَانَهُ، وَمَنْ أَعْظَمَهُ أَهَانَهُ))، البعض من الناس قد يطمئن إلى حالة معينة يعيش فيها، حالة يُسر، حالة تيسُّر للظروف المادية، واطمئنان، ويتصور أن الزمان بنفسه سيستمر على تلك الحالة، وأنها حالة هي هكذا من تلقاء نفسها، وإنما يبقى مسايرًا للزمان؛ والأمور ستستمر على ذلك النحو، من دون أن تتغير. ثم يُفاجأ فيما بعد أن هذه الأحوال تغيرت.

الأحوال تتغير، والظروف تتغير، في واقع الناس، وهناك أسباب لتغيُّرها واختلافها، وتتداخل الأسباب؛ أسبابٌ على المستوى الشخصي: من الإنسان نفسه. أسباب على المستوى الجماعي: منك ومن مجتمعك. أسباب أحيانًا تتداخل مع بعضها، في هذا العصر تتداخل الأسباب إلى حدٍّ كبير، يعني المتغيرات الدولية، والمتغيرات الإقليمية تؤثر بنفسها على ظروف الناس في بلد معيَّن، أو في عزلة معينة، يعني أحيانًا المتغيرات على المستوى الدولي وهي بعيدةٌ هناك، قد تصل تأثيراتها إلى داخل قريتك النائية، إلى ذلك الواد، لتؤثر على بدوي في خيمته.

الأحوال تتداخل، والمؤثرات تتداخل، ولهذا لا ينبغي أن يتصور الإنسان أن المسألة مجرد مسايرة للزمن، الناس في أعمالهم، في مواقفهم، في نفسياتهم، في تصرفاتهم، في اهتماماتهم، في مواقفهم، في توجهاتهم: لهم علاقة بالكثير من المتغيرات التي تحصل عليهم، ولهذا يقول اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرعد: من الآية 11]، يبدأ هذا حتى من الواقع النفسي للناس، في تفكيرهم، في ثقافتهم، في اهتماماتهم، في دوافعهم، في توجهاتهم، ثم في واقعهم العملي، ولذلك ينبغي أن يحمل الإنسان الوعي تجاه الأسباب، وآثارها، ونتائجها في واقع حياته؛ في ظروفه، وكذلك المجتمع كمجتمع، الأمة كأمة، ولو كأمة معينة داخل الأمة.

ليكن لدينا وعيٌ عن الأسباب، وما ينتج عنها من تغيير، في واقعنا، في ظروف حياتنا، ما الذي يكسب به الناس برعاية اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الذي هو مدبِّر شؤون السماوات والأرض، وملك السماوات والأرض، هو الحي القيوم، ما الذي يمكن أن يكسبوا به العزة، الكرامة، اليُسر، السَّعة، بحسب وعده “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ما الذي يمكن أن يؤثر على الناس في مستويات معينة، وأيضًا النظرة الواقعية؛ ما الذي يحصل في ظروف هذه الحياة حتى والناس يتحركون لأداء مسؤولياتهم، وقد يحصل في مراحل معينة، والأحوال تتغير من حال إلى حال. فينبغي أن يكون لدى الإنسان وعي، وأن يكون واقعيًا، ولا يُفاجأ بالمتغيرات التي تحصل في الواقع؛ لأنه لم يكن عنده نظرة إلا نظرة ساذجة، يتصور أن الأمور ستستمر على ذلك النحو.

إذا كان الإنسان يحسب حساب المتغيرات ويعرف الأسباب، والمجتمع كمجتمع يتحرك بناءً على ذلك، يبني توجهاته، سياساته، مواقفه: على أساس من هذا الوعي، فهذا سيفيد الناس في تفادي أشياء كثيرة، وفي أن يكون لديهم تجلُّد وتحمُّل، وفي أن كذلك يسلموا من الكثير من الإشكالات الناتجة عن تفاجئهم بالمتغيرات.

((وَمَنْ أَعْظَمَهُ أَهَانَهُ))، مَن أعظم الزمن: يعني تهيَّبه وأكبره، ورأى في الظروف والواقع من حوله: أنه واقع لا يمكننا أن نفعل فيه شيئًا، ولا أن نؤثر فيه بشيء، وأنه ليس أمامنا تجاهه إلا الاستسلام، وأن ندع كل شيء يؤثر علينا كما هو، دون أن نسعى للحد من ذلك، فهذا يؤثر على الإنسان، يسبب له الهوان؛ لأنه كما قلنا اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قد هيّأ الأمور على أساسٍ من الأسباب، على الإنسان أن يُسبِّب، أن يتحرك، ألا تكون عنده نظرة اليأس، ألا ينظر إلى الواقع من حوله، بإكبار حتى يكون يائسًا من إمكانية التأثير، أو التغيير، أو التفادي لشيءٍ من المخاطر.

((لَيْسَ كُلُّ مَنْ رَمَى أَصَابَ))، يعني من توصَّل بسبب إلى غرض من الأغراض المعينة، قد يصيب وقد لا يصيب، الناس والبعض من الناس قد لا يصيب، إما لأن لديه خطأ في الطريقة، أو لا يمتلك القدرة اللازمة، أو المؤهلات اللازمة في تلك المقدِّمات، في العمل على تلك المقدِّمات التي توصله إلى النتيجة. وأحيانًا تكون المسألة فوق مستوى قدراتك، وإمكاناتك، وخياراتك، وكفاءتك. الظرف العام، الواقع من حولك، يكون فيه من التعقيدات ما يعيق عليك الحصول على بعض الأمور، أو تحقيق بعض النتائج، أو بعض الأهداف. فلذلك في حالات معينة لا ينبغي الإحباط، ولا اليأس تجاه بعض الإخفاقات. وفي بعض الأمور، وفي بعض المهام ينبغي حُسن الاختيار، لمن يمتلك الكفاءة للعمل على تلك المقدِّمات للوصول إلى نتائجها.

نكتفي بهذا المقدار- إن شاء اللّٰه- نكمل ما تبقى من المقتطفات في درس الغد.

نَسْأَلُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أن يُوَفِّقَنَا وَإيَّاكُمْ لمِا يُرضِيهِ عَنَّا، وأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَارَ، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّــــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتـــُه؛؛؛

Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com