القرآن الكريم

المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1441هـ 27-04-2020

| محاضرات السيد القائد | 4 رمضان 1441هـ/ الثقافة القرآنية:-

أُعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

أيُّها الإخوة والأخوات:

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

وتقبَّل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.

اللهم اهدنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

نواصل الحديث في سياق الكلام عن الحساب، وقد تحدثنا على ضوء الآيات المباركة التي قرأناها بالأمس، ومما يجدر بنا أن نتنبه له هو أن نأخذ العبرة، وأن نستفيد من كل تلك الآيات المباركة، وما تقدِّمه من التفاصيل، وذلك لنستفيد منها هنا في واقع حياتنا في هذه الدنيا، نستشعر المسؤولية، نستشعر رقابة الله -سبحانه وتعالى- ندرك ونعي ونستشعر أنَّ كل ما نقوله وكل ما نعمله، إنما نحن نمليه على الملائكة الذين هم الكرام الكاتبين، الحفظة الذين يراقبوننا ويسجلون كل أعمالنا، فما نعمله وما نقوله نحن نمليه عليهم، وهم يوثقون، محسوبٌ ومكتوبٌ وموثَّق، ويوم القيامة نراه في صحائف أعمالنا، في كتب أعمالنا، ونحاسب عليه.

ثم أيضاً نلحظ فيما قرأناه في بعضٍ من الآيات المباركة ولها الشواهد الأخرى في القرآن الكريم، أنَّ الإنسان يوم القيامة يستشعر قصر المدة الزمنية التي أمضاها في هذه الحياة الدنيا، وكذلك يستشعر قصر المدة التي مضت أثناء ما كان في حالة الموت، منذ موته إلى بعثه، أمَّا في الآخرة فقد دخل الإنسان في مرحلة جديدة لا نهاية لها، لا نهاية للحياة فيها، لا انقطاع لها، في مرحلةٍ أبديةٍ واتجه إلى زمنٍ لا نهاية له أبداً.

الله -سبحانه وتعالى- قال في كتابه الكريم عن استشعار الناس لقصر مدة حياتهم في الدنيا: {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ}[يونس: من الآية45]، إلى هذا المستوى من الاستشعار لقصر المدة، كأن المدة الزمنية بكلها على وجه الأرض التي عاشها الناس لم تكن سواء ساعة واحدة يتعارفون بينهم فيها، كذلك عن المدة الزمنية التي مضت وانقضت من حين الموت إلى حين البعث، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}[الروم: من الآية55]، فكأن المدة بكلها لساعتين: ساعة على وجه الأرض وساعة في بطن الأرض.

البعض قد يكون لهم تقدير أكثر، {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}[المؤمنون: 112-113]، بينما في الآخرة الزمن ممتد لا نهاية له، أبديٌ، والحياة خلود، ولذلك يجدر بنا أن نعدَّ العدة، وأن نستشعر خطورة التقصير، وخطورة التفريط، وخطورة أن نفوت فرصتنا في هذه الحياة في العمل الصالح، وكل ذلك الجزاء العظيم، وكل تلك المدة الزمنية التي لا انقطاع لها ولا نهاية لها، هي أيضاً تدل على عظم مسؤوليتنا في هذه الحياة، والمطلوب أن ندرك ذلك، وأن نعيه جيداً، مسؤوليتنا في هذه الحياة كبيرةٌ جداً؛ ولذلك جزاؤها كبير على مستوى: الكم، والكيف، والزمن، جزاء كبير ويمتد بشكلٍ كبير لا نهاية له، وكذلك أيضاً شكل هذا الجزاء عظيم، هذا يدل على أهمية هذه المسؤولية، ومستوى الدور المهم للإنسان في هذه الحياة، فلا يعيش الاستهتار بالمسؤولية والغرور والغفلة، حالة خطيرة جداً على الإنسان.

بعد اكتمال الحساب واطلاع الناس على صحائف أعمالهم، وبعد وقفات المساءلة والفصل والقضاء فيما بينهم، في نزاعاتهم، ومشاكلهم، والقضايا التي كانوا يختلفون عليها في هذه الحياة، وبعد حسم مسألة الحساب، تحسم مسألة المصير للإنسان، تصبح مسألةً محسومةً وواضحة: إمَّا إلى الجنة، وإمَّا إلى النار، ليس هناك مكانٌ ثالث يمكن أن يقال للإنسان: [لن تدخل الجنة ولن تدخل النار، وستبقى تعيش حياةً في مكانٍ ثالثٍ ليست في مستوى الجنة ولا هي في مستوى النار]. إمَّا أن يكون عملك صالحاً ومنطلقاً من إيمان، ووفقاً لتوجيهات الله -سبحانه وتعالى- وكنت في هذه الحياة تتوب إلى الله من ذنوبك، وتتوب من أخطاءك، وتسعى لتلافي تقصيرك، وترجع إلى الله -سبحانه وتعالى- إن قصرت أو فرطت، ومصيرك حينئذٍ كما وعد الله -سبحانه وتعالى- الجنة، وإمَّا أن تكون في هذه الحياة من السائرين في طريق الباطل، في طريق الضلال، أو من المفرطين والمقصرين الذين لا يتوبون إلى الله، ولا يرجعون إلى الله، ولا يتلافون تقصيرهم، وخرجوا من هذه الحياة مصرِّين على ذنوبهم، بدون توبةٍ، ولا رجوعٍ، ولا أوبةٍ إلى الله -سبحانه وتعالى- ولا إنابةٍ إليه، والمصير حينها- والعياذ بالله- إلى نار جهنم، قضية خطيرة جداً.

والمشكلة الكبيرة أن هناك بعضاً من الأمور قد يتغافل الناس عنها، ويتساهلون فيها، وهي خطيرةٌ عليهم، لربما من أخطر ما هو من ضمن ذلك على المسلمين على الأمة الإسلامية، هي النظرة التجزيئية إلى الدين، والتطبيق المنقوص لدين الله -سبحانه وتعالى- للإسلام، لتعاليم الله -سبحانه وتعالى- هذه مشكلة كبيرة جداً، وخطيرة للغاية.

الكثير من أبناء الأمة يتجهون في عملية التطبيق لتعليمات الله -سبحانه وتعالى- على نحوٍ مقطعٍ ومجزأٍ ومنقوص، وهذه الحالة يعبر عنها القرآن: بالإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض، ويقول عنها: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}[البقرة: من الآية85]، هذه حالة خطيرة جداً، وهذا مما كان يمثِّل إدانةً لبني إسرائيل عندما سلكوا هذا السلوك، وتعاملوا مع دين الله بهذه الطريقة: يطبِّقون ما يناسب أهواءهم، ويتوافق مع رغباتهم، ويتركون من الدين ما لا يرغبون به، ما لا تهواه أنفسهم، ما يرون فيه مشقةً عليهم… أو لاعتبارات أخرى، فهذه الحالة كانت سلبيةً جداً، وخطيرةً جداً، وعليها وعيدٌ شديدٌ من الله -سبحانه وتعالى-.

كثيرٌ من المسلمين فصلوا جانب المسؤولية عن التزامهم الديني: المسؤولية في الجهاد في سبيل الله، في الأمر بالمعروف، في النهي عن المنكر، في الإنفاق في سبيل الله، في الاهتمام بأمر الأمة، بأمر المسلمين، بالقضايا الكبرى، بالعمل على إقامة العدل، بالعمل على التصدي للظلم، بالاعتصام بحبل الله جميعاً، بالوحدة والألفة والأخوة الإيمانية على الحق… أشياء كثيرة ومهمة جداً في تعليمات الله -سبحانه وتعالى- وأوامره وتوجيهاته، فنبذوها وراء ظهروهم، واتجهوا لتطبيقٍ منقوصٍ محكومٍ بالمزاج النفسي، وبالرغبات الشخصية، وهذه قضية خطيرة جداً؛ لأن الإنسان إذا فعل ذلك لم يعبِّد نفسه لله كما ينبغي، بل كان محكوماً بهوى النفس، وخاضعاً لرغبات النفس، وهذه حالة خطيرة يجب الحذر منها، والإنابة إلى الله منها؛ لأن جزءاً من الذنوب هو من خلال التفريط والتقصير في مسؤوليات وواجبات أمرنا الله بها، هناك نوعٌ من الذنوب هو بالتعدي لحدود الله، بالمخالفة فيما نهانا الله عنه، في الارتكاب للجرائم والفواحش والموبقات، وهناك جانبٌ آخر يعود إلى التفريط فيما أمرنا الله به؛ لأننا نتلقى التعليمات من الله -سبحانه وتعالى- وفيها الأوامر وفيها النواهي، نهانا عن أشياء، وأمرنا بأشياء، فإذا جئنا للالتزام بترك ما نهانا عنه، فلا يكفي، علينا أيضاً أن نمتثل أمر الله -سبحانه وتعالى- فيما أمرنا به، وأن نعمل بما وجَّهنا إليه، فهذه مسألة مهمة جداً.

المرحلة التي تكتمل فيها عملية الحساب ويتحدد فيها المصير بشكلٍ محسوم، هي مرحلة حسَّاسة جداً في يوم القيامة، فالمؤمن فيها يكون مستبشراً غاية الاستبشار، وفرحاً، ومسروراً، وأصبحت كل رغباته وكل تطلعاته إلى لحظات الانتقال إلى الجنة، أمَّا الخاسرون، والخائبون، والهالكون، والمفرِّطون، والمقصِّرون، والمستهترون، الذين مصيرهم بات محسوماً إلى النار، فهي حالة رهيبة ونعوذ بالله منها، حالة من الندم الشديد، حالة من الحسرة، من أسماء يوم القيامة سمِّي في القرآن الكريم بيوم الحسرة، {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ}[مريم: من الآية39]، حسرة شديدة، ندم شديد.

الإنسان في تلك اللحظات التي يكون فيها متحسراً، ونادماً، وباكياً، ومستعطفاً، لا يجديه ذلك، يجديك هذا في الدنيا: أن تندم على ما تقصِّر فيه، على ما عصيت الله فيه، هنا في الدنيا يجديك، ينفعك، تتوب، تنيب، تطلب من الله المغفرة، هذا الشهر الكريم جعله الله -سبحانه وتعالى- من الفرص العظيمة لتتوجه إليه بطلب المغفرة، بطلب الرحمة، بطلب العفو، لتنيب إلى الله -سبحانه وتعالى- هنا الفرصة، هنا يجديك، كل شيءٍ هنا له قيمته، الاستعطاف، التضرع، البكاء، الدعاء، الرجوع إلى الله -سبحانه وتعالى- هنا يفيدك، هنا وقته، هناك لا فائدة لذلك، لا رحمة، ولا عطف، ولا عفو عن الباكي المتحسر المستعطف، وكم سيبكي الكثير من الناس آنذاك، من أكثر مواطن البكاء هو البكاء في يوم القيامة، يبكون، كثير ممن كانوا في هذه الدنيا يعيشون حالة القسوة، وقلوبهم أقسى من الحجارة، ولا يستشعرون الخشية من الله، ولا الخوف من الله -سبحانه وتعالى- ولا الحياء من الله، وكانوا يعيشون حالة الاستهتار بكل شيء، آنذاك هم في أنهى مستوى من الخشوع، والخضوع، والخوف، خوف شديد جداً، تكاد قلوبهم أن تخرج من صدورهم من شدة الخوف، {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}[غافر: من الآية18]، حالة رهيبة جداً من الخوف الشديد، والرهبة الشديدة، والندم الشديد، والحسرة الشديدة، وكل ذلك يكون عذاباً نفسياً لا جدوى منه، وليس له إلَّا هذا: أنه عذابٌ ليس فيه إلا أنه عذابٌ نفسي، هذه حالة خطيرة جداً.

حينها تبدأ في تلك اللحظات وفي تلك الأجواء حالة التعبير عن الحسرة والندامة، وعندما تأتي ضمن هذه الترتيبات عملية التقريب لجهنم والتقريب للجنة، وبداية الترتيبات والإجراءات لعملية النقل لأبناء البشر من ساحة الحشر، كلاً سيذهب ويتجه إلى مصيره الأبدي والنهائي، وتفترق البشرية فراقاً نهائياً، قد تفترق الأسرة الواحدة، قد يكون جزءٌ من أبناء الأسرة سيذهب باتجاه جهنم، وجزءٌ من أبناء الأسرة سيتجه باتجاه الجنة، ويفترقون فراقاً أبدياً، لا يلتقون بعدها أبداً، قد يكون على مستوى الذين كانت تجمعهم في هذه الدنيا القرية الواحدة، أو الحي الواحد، ظروف هذه الحياة تجمعهم، آنذاك سيفترقون: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}[الشورى: من الآية7]، هكذا يقول الله -سبحانه وتعالى- في القرآن الكريم.

في تلك الأجواء الرهيبة جداً يقول الله جل شأنه: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}[الفجر: من الآية23]، وهي لحظة رهيبة جداً، عندما تقترب نار جهنم، ذلك العالم الذي كله بكل بما فيه من العذاب يجسِّد غضب الله -سبحانه وتعالى- وانتقامه، فيه بأس الله، فيه سطوته، جبروته، بقوته، نعوذ بالله من غضبه وسخطه وعذابه، في تلك اللحظة الكثير ممن كان غافلاً في هذه الدنيا لا يسمع، ولا يعي، ولا تنفعه الذكرى في هذه الحياة، {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}[الفجر: 23-24]، يقول في تلك الحالة في تلك اللحظات: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}، يندم على أنه لم يحسب حساب هذه الحياة الأبدية، التي كانت الأولى بأن يحسب حسابها، وأن يقدم لها، وألا تكون حياةً يعيش فيها العذاب، حياةً خالصةً بالبؤس والعذاب الشديد، ليس فيها ولا لحظة راحة، حالة خطيرة جداً، {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}، يفكر البعض في نفسه كيف فوَّت الحياة في أيام الدنيا، ولم يغتنم الفرصة، وكيف فرَّط فيما يقربه من الله -سبحانه وتعالى- وقد أتاح الله له الفرصة الكافية، وعرض عليه ما فيه الخير له، ما فيه نجاته في هذه الحياة، فيتحسر، ماذا يقول؟ {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}[الزمر: من الآية56]، {يَا حَسْرَتَا}، سيقولها من أعماق أعماق قلبه، يقولها وهو نادمٌ غاية الندم، وهو باكٍ، وهو متألم، وهو يتعذب عذاباً نفسياً، وهو في حالةٍ من الرعب، ومن الإحباط الشديد، ومن الحسرة الشديدة.

البعض قد يفكِّر في نفسه وأنه في الدنيا أغواه خليلٌ له، صديقٌ له، ارتبط في الدنيا بصديق، بقرين سوء، فأثَّر فيه، واتجه به في المعاصي، أو انحرف به إلى صف الباطل، أو ورَّطه في جرائم وذنوب، أو أبعده عن طريق حق، وعن أعمال حق، وأعمال خيرٍ ونجاة، حينها سيندم؛ لأنه ارتبط بخليلٍ وصديقٍ أبعده عن التمسك بالهدى، والسير في طريق الهدى، يقول {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)  لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي}[الفرقان: 28-29]، حالة رهيبة جداً يتحسر فيها الإنسان، البعض قد يكون ضمن أناس اتجهوا في هذه الحياة اتجاهاً ضالاً، اتجاهاً خاطئاً، اتجاهاً باطلاً، ارتبط في هذه الحياة بالمستكبرين بأيٍ من فرق المستكبرين: من الطغاة والظالمين، أو من الكافرين، أو من الفاسقين والمجرمين، ممن كانوا في هذه الدنيا يتجهون في هذه الحياة في طريق الباطل، ويتحركون في صف الضلال، فارتبط بهم على ما هم عليه من باطل، هو كان في هذه الحياة إنساناً عادياً، وإنساناً ضعيفاً على مستوى إمكاناته وقدراته المادية، كان إما من الفقراء، أو كان من الناس العاديين، وكان في هذه الحياة يرى أنه سيؤمِّن لنفسه احتياجاته في هذه الحياة، متطلبات هذه الحياة، وأن يعيش أيضاً وضعيةً محترمةً في هذه الحياة لأن ينضم إلى صف أولئك المستكبرين، وأن يدخل في إطارهم، وأن يناصرهم، وأن يقف في صفهم، فيرى في ذلك أنه سيستفيد من جوانب متعددة، فاتجه نحوهم، وارتبط بهم، وترك طريق الحق، طريق الهداية؛ إمَّا لأنه كان يرى أنه لا يؤمِّن لنفسه فيها المغريات المادية، أو كان بدافع الخوف، يرى أن أولئك هم أهل إمكانات وقدرات… وغير ذلك.

في هذه الحالة أيضاً تأتي حالة الحسرة والندم الشديد، يقول الله -جلَّ شأنه-: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} في تلك اللحظات الرهيبة جداً، لحظة التوقيف والتجهيز للنقل إلى جهنم، {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} في حالة من النقاش، في حالة من الخصام، الناس في تلك اللحظات يحملون بعضهم بعضاً المسؤولية فيما وصلوا إليه، وفيما صاروا إليه، {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا}؛ لأن حسرتهم- بالتأكيد- هي أشد، وندمهم أشد، {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}[سبأ: الآية31]، فهم يتجهون بتوجيه اللوم عليهم ويحملونهم المسؤولية، يقولون: {لَوْلَا أَنْتُمْ}؛ لأن ورطتنا كانت هي في مناصرتكم، ومشكلتنا هي في الوقوف في صفكم، لو سلمناكم في الدنيا واستقطابكم وتأثيراتكم لكنا مؤمنين، {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ}[سبأ: الآية32]، يعني: اللائمة ليست علينا، بل هي عليكم، أنتم من انصرفتم من تلقاء أنفسكم، وفعلاً هذه هي الحقيقة.

الإنسان في هذه الدنيا هو الذي اتخذ قراره وخياره واتجه هو بنفسه هنا أو هناك، وإلا كان بإمكانه أن يكون متمسكاً بهدى الله -سبحانه وتعالى- الذي فيه نجاته، وفيه فلاحه، وبه فوزه، ولكن الإنسان قد يكون إنساناً عادياً ومستضعفاً وفقيراً وهو مجرم؛ ولهذا مال إلى المجرمين، مال إلى الطغاة والمستكبرين، هو يحمل في نفسه الحالة العدوانية؛ فكان مع المعتدين والطغاة والظالمين.

كل هذه الحالة من التحسر، من الخصام، من الجدل، من تحميل المسؤولية، كلاً يحمل المسؤولية الطرف الآخر، من النزاع ما بين الخليل وخليله، ما بين الصديق وصديقه، ما بين المجموعة فيما بينها… على هذا المستوى الجماعي وغيره، لا يجدي شيئاً، لا يجدي شيئاً، الله -جلَّ شأنه- كيف يقول؟ {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ}، ما هناك فائدة، خصامكم، تحميلكم لبعضكم البعض المسؤولية تجاه ما وصلتم إليه وما وقعتم فيه من العصيان والمخالفة، فأوصلكم إلى ما أوصلكم، لا يجديكم شيئاً، {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ}[ق: الآية28]، قدم الله بالوعيد في الدنيا، بل إنه -جلَّ شأنه- قدَّم حتى هذه التفاصيل التي ستحدث، قدَّم هذه التفاصيل عن تحسر الإنسان يوم القيامة، عن أسفه وندمه وحسرته، عن موقفه حتى من خليله الذي أضله، أبعده عن طريق الهدى، عن موقف المستضعفين من المستكبرين… كل هذا الوعيد تقدم في الدنيا على كل المعاصي والذنوب والمواقف والاتجاهات التي توصل الإنسان إلى جهنم، وحذر وأنذر ونصح وأقسم، في القرآن الكريم كل أساليب الخطاب، وضرب الأمثلة، ولدرجة أن الله يقسم لنا في القرآن إذا نفع فينا، إذا كان سيفيد فينا أن نصدق، يقسم لنا قسماً، فما الذي أبقى؟ ليس هناك أي تقصير من جانب الله -سبحانه وتعالى- {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ}، ما هناك أبداً تغيير لقرارات الله وأحكامه، وإقناع له بأن يغير ما حكم به، لا؛ لأنه الحكم الحق الذي تقتضيه حكمته، ويقتضيه عدله.

يوم القيامة من أهم ما فيه: أنه يتجلى فيه العدل الإلهي، يتجلى فيه العدل من الله -سبحانه وتعالى- العدل وهو يفرق بين المحسن والمسيء، العدل وهو يثبت للإنسان ما عمله؛ حتى يراه ثابتاً عليه، حتى عملية هذا: التوثيق، وتلك الإجراءات والترتيبات والحسابات والشهود، حتى شهادة جوارح الإنسان: اليد تشهد، الرجل تشهد، الجلد يشهد، كلها تجلي العدل الإلهي، تجلي لنا عدالة الله -سبحانه وتعالى- حتى يتجه الإنسان إلى جهنم وهو معترفٌ ومقرٌ بأنه مذنب، معترفٌ بذنبه، وهذا ما يفعلونه، في ذلك الموقف: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} معترفين خلاص، {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}[غافر: الآية11]، هل يمكن أن نستأنف مرحلة جديدة، حياة ثالثة وموت ثالث ثم بعث؟ لا يمكن أبداً، ليس هناك فرصة إضافية أبداً.

ففي ذلك الحال الله يقول: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}[ق: 28-29]، كل تلك الإجراءات هي عادلة، والعقاب والجزاء هو بالعدل، ولا ظلم، {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}، في آيةٍ أخرى يقول: {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}[غافر: من الآية17]، كله بالعدل، ويتجلى فيه العدل الإلهي حتى في مظالم العباد، كم في هذه الدنيا من مظالم كثيرة جداً تجلى فيه العدل الإلهي في الحكم بين العباد والفصل بين العباد.

المحطة الأخيرة وقد تمت عملية الحساب، والفصل، والحكم الإلهي، والفرز، وبدأت ترتيبات النقل، جيء بجهنم، وأزلفت الجنة للمتقين، قربت أيضاً، وستبدأ عملية النقل، المحطة الأخيرة محطة ملفتة ومهمة وفيها درس عجيب.

في طريق الضلال والعصيان لله -سبحانه وتعالى- وفي طريق الباطل، وفي طريق المعاصي، رمز الشر هو الشيطان، ومنتهى العصاة، والضالين، والمبطلين، والظالمين، والفاسقين، والمفرطين، المقصرين، وأصحاب الكبائر… منتهاهم هو الشيطان، هو رمزهم الكبير بالنسبة لهم، وهو العدو، عدو هذا الإنسان الذي سعى في هذه الحياة لإضلال الإنسان، فاستجاب له أكثر الناس، ولم يكونوا مرغمين، استجابوا له في مقابل معصية الله -سبحانه وتعالى- معصية ربنا العظيم الكريم، الذي خلقنا وأنعم علينا بكل النعم، الملك العظيم القدوس، في مقابل الطاعة للشيطان الذي هو عدوٌ، وهو رمزٌ للشر والإجرام والفسق، فسق عن أمر ربه، آنذاك يجتمع الكل حوله لينقلوا معه إلى جهنم؛ لأنهم حزبه، ويتوجه إليهم بكلمات كل ما فيها الشماتة بهم، والسخرية بهم، وفيها أيضاً الاعتراف بذنبه وبذنوبهم، وأنه لا يمكن أن يقدم لهم أي خدمة، ولا أن ينفعهم بأي شيءٍ أبداً.

الذين في هذه الدنيا حسبوا حساب الله، وخافوا من الله، ووثقوا بوعد الله، واستجابوا لله، كانوا فائزين؛ أما أولئك فماذا قال لهم؟ {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ}، (وَعْدَ الْحَقِّ)، وأنجز وعده، {وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}، كل الوعود الشيطانية التي كان الإنسان يمني بها نفسه لن يتحقق منها شيء، {وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي}، ما ينفع أن يحملوه المسؤولية، يقولون: [المشكلة هي في الشيطان، والذي ورطنا هو الشيطان، وهو الذي يتحمل المسؤولية، فليحاسب هو ويعاقب بما فعلناه…]. لا يفيد ذلك؛ لأنه إنما كان يدعو ويوسوس، قد وصلت إليك هداية الله، بيناته الواضحة الصريحة، فلم تقبلها وقبلت وسوسةً من الشيطان، ووعوداً شيطانية كلها أماني، {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} لا أفعل لكم شيئاً، لا أغيثكم، لا أنفعكم بشيء، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} كلٌ لن ينفع الآخر ولن يفيده بشيء، {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ}[إبراهيم: من الآية22]، يعني: عندما كانوا يؤثرون طاعته فوق طاعة الله -سبحانه وتعالى- كان هذا شركاً في الطاعة، فلم ينفعهم بشيءٍ يوم القيامة.

كم هي الحسرة والخيبة- والعياذ بالله- أن يرى الإنسان نفسه في ذلك الاجتماع، في ذلك الحشد، وهو يسمع مثل هذا الكلام من الشيطان، ويرى نفسه خائباً خاسراً، لا أحد ينفعه بشيء، بعد ذلك تبدأ عمليات النقل.

بالنسبة للمتقين سيتم نقلهم بكل تكريم، وهم يعيشون حالة الفرح والسرور والاستبشار الذي لا يمكن تخيله، تخيل تلك اللحظات وقد بدأت الترتيبات، {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ}[ق: الآية31]، ليتم انتقالهم إليها، يتجه الإنسان في ذلك الجمع، ذلك الجمع المميز، جمعٌ على رأسه أنبياء الله ورسله وأولياؤه والصالحون من عباده، ما أعظمها من نعمة! يتجه الإنسان في صفهم، يحشر معهم، يذهب معهم، ينتقل معهم، يتجه في موكبهم موكب النور يوم القيامة، فيما الآخرون يبقون في حالةٍ من الظلمات؛ أما أولئك في موكب النور: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}[الحديد: من الآية12]، كيف هي الفرحة والسعادة والسرور والاستبشار؟! كيف هي الراحة النفسية؟! فوق الخيال، لا يمكن أن نتخيلها الآن.

ويحشرون بتكريم، الله -جلَّ شأنه- يقول: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا}[مريم: الآية85]، كأنهم وفود، تتم عملية نقلهم، عند وصولهم إلى الجنة هناك مراسيم للاستقبال فيها التكريم، فيها الاحترام، يقول الله -جلَّ شأنه-: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ}، تأملوا جيداً (سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ)؛ لأن الجنة أعدت لمن؟ للمتقين، فلندرك أهمية الاستفادة من شهر رمضان لتحقيق التقوى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، {إِلَى الْجَنَّةِ} وما أعظمه من سفر ومن رحلة إلى الجنة! إلى عالم الجنة {زُمَرًا} جماعات، {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} وصلوا إليها وأبوابها مفتحة، جاهزة للاستقبال وجاهزة للدخول، وأمامهم ملائكة الله الذين هم معنيون بإدارة شؤون الجنة، والقائمون على رعايتهم فيها، {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} وهم في حالةٍ من الاستقبال والترحاب {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}[الزمر: الآية73]، يستقبلونهم بالسلام وبالإشادة بهم والتبشير لهم، {فَادْخُلُوهَا} تفضلوا، {خَالِدِينَ} يدخلون للخلود في ذلك العالم العجيب للأبد، {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ}[الحجر: من الآية46]، بسلام ليس هناك أي منغصات، ولا مخاوف، ولا مخاطر، وبأمنٍ دائمٍ، ليس هناك أي خوف أبداً، في الحالة المناقضة لأهل النار التي هي خوف رهيب والعياذ بالله.

الجنة هي ذلك العالم العجيب الذي أعده الله لعباده المتقين، قال عنها: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: من الآية133]، قال عنها: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا}[مريم: الآية63]، وفيها الحياة السعيدة الأبدية، حديث القرآن واسعٌ عن الجنة، نستعرض بعضاً منه:

أولاً عن سعة الجنة: الجنة عالمٌ واسعٌ جداً، الله -جلَّ شأنه- قال عنها: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}[آل عمران: من الآية133]، مسافات شاسعة وسعة مدهشة، ولذلك لن يواجه الإنسان فيها مشكلة كيف تتوفر له أرض، كيف يتوفر له سكن، لاحظوا في هذه الدنيا الكثير إن لم يكن معظم أبناء البشر في هذا الزمن (في زمننا هذا)، لا يمتلكون المنازل ولا يمتلكون قطع أراضي؛ إنما يعيش مستأجراً الكثير، اليوم ربما الأغلبية من سكان البشر، سكان الكرة الأرضية من البشر يعيشون في المدن ويتكدسون فيها، وهذا للأسف طريقة غير صحيحة، لكن هكذا يفعلون، يذهبون للتكدس في المدن، وأغلبهم لا يمتلكون فيها منازل شخصية لهم؛ إنما يستأجر، هو مستأجر الأغلبية، وإذا أراد الإنسان قطعة أرض، فدونها اللتيا والتي، دونها خرط القتاد ومسألة صعبة جداً، في كثير من مناطق العالم هناك غلاء شديد جداً في قيمة الأراضي، ويصعب على الكثير من الناس، ولا يمتلكون القدرة أصلاً لشراء قطعة أرض، ولأن يمتلك قطعة أرض.

أما النزاعات على الأراضي فالكلام يطول، المشاجرات، كثير من القضايا في المحاكم هي نزاعات على أراضي، نزاع على قطعة أرض هنا، نزاع على قطعة أرض هناك، نزاع على مزرعة هنا، نزاع على مزرعة هناك… وهكذا، نزاع على صبابات الماء، نزاعات كثيرة ليس لها آخر لكثرتها، مشاكل كبيرة جداً على السكن، على المأوى، والقليل من الناس من يمتلك المأوى والسكن الملائم والمناسب له، والكثير من الناس لديه مشكلة في هذه.

القيود على الحركة في الأرض قيود كثيرة جداً ومسألة معقدة للغاية، والكثير من الناس لا يمكنهم ذلك، الكثير من الناس لا يمتلك الإمكانات المادية، ولا تتاح له الفرصة، وليس له أيضاً مجال بأن ينتقل من بلد إلى بلد، أن يسافر من قُطر إلى قُطر، وإجراءات معقدة جداً، وأحياناً لا يمكن أصلاً، الكثير من الناس لا يمكنهم ذلك.

فما هو الحال في الجنة؟ تلك المساحات الشاسعة في الجنة، تلك السعة المدهشة في عالم الجنة تجعل الإنسان يعيش فيها بدون أي وجود لمثل هذه المشاكل، يتوفر للإنسان القصور، الجنات، البساتين، المزارع، لا قيود على حركته في عالم الجنة ذلك العالم العجيب جداً، قد يصعب عليك التنقل هنا في الدنيا إلى مناطق عادية جداً؛ أما المنتزهات فالمسألة فيها متطلبات ولها التزامات قد لا تتوفر للكثير من البشر، في عالم الجنة لا قيود على تلك الحركة أبداً، نتبوأ من الجنة حيث نشاء، يدركون هم هذه النعمة في الجنة، نعمة أنه يمكنه الانتقال في عالم الجنة، وأن ينزل، وأن يذهب حيث يشاء، عالمٌ عجيبٌ جداً.

الجنة كما قال الله -جلَّ شأنه- عنها في القرآن الكريم: ، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}، ولاحظوا كيف يركز القرآن على هذا: بأن الجنة للمتقين، وأن الوعد بها للمتقين، ويدعونا إلى التقوى، ويقدم لنا شهر رمضان كوسيلة تساعدنا على تحقيق التقوى، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ}، المياه فيها متوفرة جداً وبشكل أنهار، ليس هناك في الجنة مشكلة مياه، هنا في الدنيا كم المشاكل على المياه، كم الصعوبات التي يعاني منها الكثير من الناس في حياتهم لتوفير المياه، مشكلة من أكبر المشاكل التي يعاني منها البشر اليوم على وجه الأرض، هناك متوفرة جداً وبشكل أنهار، أنهار تجري، أما الأشجار فهي مجنة ومغطية لكل مساحة الجنة، {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ}، ذلك الماء لا يتغير ولا يتلوث، يبقى على الدوام نقياً، ولا يتغير فيه لا طعمه ولا لونه، ولا شمه ورائحته، أبداً، نقياً وغير ملوثٍ على الدوام.

{وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ}، حتى اللبن يتوفر في الجنة بشكل أنهار، من العجيب كيف ستكون تلك الأنهار، أنهار اللبن المتدفق، والذي يبقى له دائماً لذته ومذاقه الرائع، فلا يتغير، لا ينتهي، معلبات اللبن في الدنيا يمكن أن تنتهي إذا تأخرت عن وقت تاريخ صلاحيتها. هناك يتوفر، هذا في عالم الجنة، غير الحالة التي تخصك، غير بساتينك، وغير العيون التي هي في إطار ما هو خاصٌ بك، وغير أنواع الشراب الذي يقدم في معلبات الجنة من عيونها وفي أوانيها وفي كؤوسها، هذا على مستوى عالم الجنة عندما تتفسح، عندما تذهب للنزهة في عالم الجنة، عندما تتنقل في عالم الجنة فأمامك هذه الأنهار.

{وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}[محمد: من الآية15]، الثمرات في الجنة متوفرة، العسل أنهار في الجنة، في الدنيا الكثير من الناس، ربما أغلبية البشر لا يتوفر لهم العسل، حالة نادرة لدى الكثير من الناس أن يتوفر له شيءٌ من العسل، وإذا كان عسلاً طبيعياً لم يكن مغشوشاً، أو عسلاً صناعياً، فهذه أيضاً حالة أصعب، هو في الجنة أنهار متدفقة.

لاحظوا، كل هذا النعيم يمكنك أن تصل إليه، كل هذه الحياة الطيبة يمكن أن تصل إليها، حيث تتوفر كل المتطلبات التي يريدها الإنسان، والتي هي جزءٌ من حاجته في حياته، لأكله، لشربه، في ملابسه… كل مختلف الاحتياجات التي يريدها الإنسان، الله يقول: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ}، كل ما تريده متوفر، كل الذي تريده متوفرٌ في عالم الجنة، {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ}، للأبد، حياة دائمة لا تنقطع بالموت، ولا بحادث بأي شكلٍ من الأشكال، بأي نوعٍ من أنواع الحوادث، لا، حياة للأبد، ويستمر فيها النعيم متجدداً لا ينقطع أبداً ولا ينفد، {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا}[الفرقان: الآية16].

أيضاً على المستوى المادي تتوفر كل متطلباته: من كل الثمرات، من كل المشروبات الراقية، الملابس قال الله عنها: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}، وحلّوا أساور من ذهب، أساور من فضة، أساور متنوعة، الأساور الزينة في الجنة متنوعة، الملابس من الحرير، كل متطلبات الحياة متوفرة بدون استثناء، عبارة: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} عبارة جامعة جداً.

على المستوى النفسي ليس هناك أي منغصات أبداً، لا حزن، ولا همّ، وليس هناك أي متاعب في عالم الجنة، كل شيء يتوفر بدون أي عناء، في الدنيا تتعب إذا كنت مزارعاً ولديك مزارع كم تحتاج من الجهود فيها، هناك لا تحتاج إلى أي جهود، ولا إلى أي متاعب أبداً، وليس هناك على المستوى النفسي أي قلق، ولا حزن، ولا ضيق… ولا أي شيء، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}[فاطر: من الآية34]، الحزن ذهب نهائياً، الحالة النفسية في الجنة كلها حالة سرور، في الدنيا البعض من الناس قد يكون لديه حتى إمكانات مادية، لكنه لا يعيش السعادة بها، يعيش الاكتئاب، كم هناك من حالة اكتئاب لدى الكثير من الناس الذين يمتلكون في هذه الدنيا الكثير من الإمكانات المادية، في الغرب تصل إلى مستوى الانتحار، تصل حالة الاكتئاب بهم إلى مستوى الانتحار.

في الجنة لا حزن، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}[فاطر: 34-35]، ما هناك أي تعب أبداً، راحة، نشاط دائم، إحساس بالصحة، إحساس بالسعادة، إحساس بالنشاط والقوة، لا يعتريك حالة من الضيق النفسي، ولا إرهاق، ولا تعب، ولا عناء، ولا همّ، ولا هرم، ولا مرض، ليس هناك مستشفيات في الجنة، ويحتاج الإنسان أن يذهب للاستطباب وهو مريض، لا أبداً، سعادة دائمة.

وانسجام تام فيما بين السكان، ليس هناك أي مشاكل فيما بينهم، الله جلَّ شأنه يقول: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}[الحجر: الآية47]، العلاقات أخوية وودية، وليس هناك تحاسد فيما بينهم، هذا يحسد هذا، وهذا يحسد ذاك، وليس هناك أيضاً من إساءات، أو توجيه للكلام الذي فيه إساءة، أو الكلام الجارح، أو التقليل من احترام أحد، تعيش في الجنة محترماً، لك كرامتك، لك قدرك، لك احترامك، لا أحد يسيء إليك، لا أحد يظلمك، لا أحد يؤذيك، لا أحد يوجِّه إليك الكلام الجارح، {لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا}[مريم: من الآية62]، الكلام كله كلامٌ سليمٌ وكلامٌ محترم، {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ}[الحج: من الآية24]، ليس في كلامهم أي كلام سيء، أو كلام لغو، أو كلام تافه، أو كلام مسيء، أو كلام جارح، أو كلام مؤذٍ… أو أي شيء من هذا. لا أبداً، كله كلام سليم، وإيجابي، وجيد، وطيب.

{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}[مريم: من الآية62]، هذه الوجبات في الجنة، وقد يكون مع الوجبات أشياء كثيرة أخرى تترافق أيضاً.

ومع هذا في الجنة برفقة أولياء الله من أنبيائه، ورسله، والصدِّيقين، والشهداء، والصالحين، هذه نعمة عظيمة جداً، الله جلَّ شأنه قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}[النساء: الآية69]، تطيب الحياة معهم، وتطيب الحياة بجوارهم، حياة هنيئة تشاهد فيها الأنبياء، وتشاهد فيها الأولياء، يمكنك أن تلتقي بهم، أن تسمع منهم، هذه أيضاً نعمة عظيمة جداً.

ومع ذلك كله تكريم، الحياة في الجنة النعيم المادي يتوفر فيها على أرقى مستوى وبدون أي عناء ولا تعب وبتكريم، على المستوى المعنوي يقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}[الحاقة: الآية24]، {هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[الطور: من الآية19]، كل عبارات التكريم والتي تشعرهم بأنَّ: أنتم جديرون بهذا النعيم بأعمالكم، مع أنه برحمة الله وبتوفيقه، الإنسان حتى في العمل الصالح يحتاج إلى توفيق الله -سبحانه وتعالى- والله هو المتفضل والمنعم الكريم، مع ذلك حالة من التكريم، {هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، هذا تكريم كبير.

{وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد: 23-24]، حتى هذه الزيارات من وفود الملائكة التي ترحب بهم، وتهنئهم، وتبارك لهم ما وصلوا إليه من النعيم، مبروك وصلت إلى نعيم عظيم.

وليس لهم من شغلٍ شاغل إلَّا أن يتهنؤوا بما هم فيه من النعيم، يتنعمون، هم في حياة كلها حياة سعادة، {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ}[يس: 55-57]، أي شيء تريد سيوفِّرونه لك، هناك الخدم الذين هم جاهزون، أولئك الخدم الذين هم كاللؤلؤ المكنون، وكلهم نشاط لتوفير كل ما تريده وتحتاجه.

{سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}[يس: الآية8]، وهذا أيضاً من التكريم العظيم، يسلِّم الله عليهم، ويصلهم السلام من الله قولاً وهم أيضاً في دار السَّلام التي أعدها الله لهم يعيشون حالة النعيم، وفي حالة رضا عن الله، ورضا بما وصلوا إليه، والله قد رضي عنهم، وهذا أيضاً من التكريم، وأن يحسوا بأن هذا الذي هم فيه من النعيم هو تعبيرٌ عن رضا الله -سبحانه وتعالى- وعن محبته لهم، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}[البينة: من الآية8]، هم أيضاً في رضا عما عملوه وعما قدموه، من وهو في ساحة المحشر يقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}[الحاقة: من الآية19]، يعيش هذا الرضا عن عمله، عن جهده، عن سعيه، عن مواقفه، عن اتجاهاته التي كانت نتيجتها تلك.

ولا ملل، هم في ذلك النعيم لا يملّون منه، الله جلَّ شأنه قال عن الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}[الكهف: الآية108]، لا يريدون الانتقال منها إلى غيرها من الملل، لا ملل، نعيم متجدد، مفاجآت بعد كل فترة من أنواع النعيم موديلات جديدة من الأشياء التي يهيئها الله لهم، أشياء كثيرة وجو ليس فيه ما يبعث على الملل ولا السآمة، سعادة هنيئة وطيبة وأبدية لا نهاية لها، ومع ذلك يمكنهم أن يشاهدوا- كما نحن اليوم تطلعنا مشاهد فيديو- أن يشاهدوا ما فيه أهل النار ببث مباشر، وأن يشاهدوا ما أهل النار فيه من العذاب الشديد، والضنك، والمصائب الرهيبة جداً والعياذ بالله.

طريق الجنة طريقٌ سهلة، الله يدعونا إليها، حتى التفاصيل التي يعرضها عن الجنة هي ترغيبٌ لنا، الله يعرضها علينا هنا في الدنيا، هل تريدون هذه الجنة، الله يدعونا إليها، {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}[يونس: من الآية25]، ينادينا أن أقبلوا، أن هلموا إلى هذه الجنة، أعمالها ميسرة، أعمال الجنة والعمل الصالح أيسر من الأعمال التي توصل إلى النار، طريق الجنة أسهل من طريق النار، الله وصفها باليسرى في القرآن الكريم، أحلَّ لنا الطيبات، وحرَّم علينا الخبائث، هل هذه مشكلة؟ كم نسبة ما أحلَّ الله لنا وجعله طيِّباً؟ كثير جداً في مقابل ما حرَّم وهو خبيث وشيء محدود، المسؤوليات التي أمرنا بها فيها خيرٌ لنا في الدنيا والآخرة، وهي أيضاً لمصلحتنا، تنصلنا عنها له تبعات في الدنيا أكبر، وما أهل النار فيه من الأعمال التي تقابل تلك المسؤوليات هو أصعب، ومع هذا فتح الله لنا مجال الاستعانة به، وأن نسأله التوفيق، وأن نسأله أن يعيننا، ويعين، ويوفِّق، ويمنح العطاءات الواسعة جداً في الدنيا أيضاً: عزة، وكرامة… وأشياء كثيرة، ولو أنَّ هذه الحياة لا تخلو من المنغصات، لكن الإنسان يتطلَّع إلى ما عند الله، وحياة أبدية في مقابل حياة قصيرة، كل ما فيها متاع ومحدود.

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com